شريعة الاسلام تحرص كل الحرص علي أن تقوم العلاقات بين الناس, علي المحبة والمودة, وعلي تبادل الكلام الطيب فيما بينهم.
لأن الكلام الطيب له آثاره الجميلة مع الأصدقاء ومع الأعداء.. له ثماره الحلوة مع الأصدقاء, لأنه يزيد في محبتهم, ويستديم أخوتهم, ويمنع كيد الشيطان من نزغات الشر فيما بينهم.
قال ـ تعالي
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا)[ سورة الإسراء الآية:53].
وله عاقبته الحسنة مع الأعداء, لأنه يعمل علي إطفاء خصومتهم, وعلي التقليل من عداوتهم, وعلي فتح باب الحوار الحكيم فيما بيننا وبينهم.
قال تعالي: ـ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)[ سورة فصلت الآية:34]
ولقد جعل الله ـ عز وجل ـ من صفات عباده الأخيار: النطق بالكلام الطيب فقال
وهدوا إلي الطيب من القول وهدوا إلي صراط الحميد)[ سورة الحج الآية:24]
وإذا كانت شريعة الإسلام قد حببت أتباعها في النطق بالكلمة الطيبة, فإنها في الوقت نفسه قد حذرتهم من الكلمة السيئة, وتوعدت الذين يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا, ويلتمسون للأطهار العيب, ويقذفون كرامتهم بالفاحشة القبيحة..
توعدت هؤلاء المفسدين بأشد العقوبات, فقال ـ تعالي: ـ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) [ سورة النور الآية:4 ـ5]
وقوله ـ سبحانه ـ
يرمون) من الرمي, وأصله في اللغة القذف بشيء صلب أو ما يشبهه تقول: رمي فلان فلانا بحجر, إذا قذفه به.
والمراد به هنا: الشتم والقذف بفاحشة الزني, أو ما يستلزمه كالطعن في النسب.
قال الإمام الفخر الرازي ـ رحمه الله ـ: وقد أجمع العلماء علي أن المراد بالرمي هنا: الرمي بالزني. وفي الآية أقوال تدل عليه: أحدها: تقدم ذكر الزني ـ في قوله ـ تعالي ـ
الزانية والزاني...)[ سورة النور الآية:2]
وثانيها: أنه ـ تعالي ـ ذكر المحصنات وهن العفائف, فدل ذلك علي أن المراد بالرامي: رميهن بضد العفاف.
وثالثها: قوله ـ سبحانه ـ
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) يعني علي صحة ما رموهن به ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا بالزني.
ورابعها: انعقاد الإجماع علي أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزني, فوجب أن يكون المراد هنا: الرمي بالزني.
ولفظ( المحصنات): جمع محصنة, والإحصان في اللغة بمعني المنع, يقال: هذه درع حصينة, أي: مانعة صاحبها من الجراحة, ويقال: هذا موضع حصين. أي: مانع من يريده بسوء.
والمراد بالمحصنات هنا: النساء العفيفات الطاهرات البعيدات عن كل ريبة وشبهة.
وسميت المرأة العفيفة بذلك, لأنها تمنع نفسها من كل سوء.
قالوا: ويطلق الإحصان علي المرأة والرجل, إذا توافرت فيهما صفات العدالة والاستقامة, والإسلام, والزواج وغير ذلك من الصفات الكريمة.
وإنما خص ـ سبحانه ـ النساء بالذكر هنا: لأن قذفهن أشنع, والعار الذي يلحقهن بسبب ذلك أشد, وإلا فالرجال والنساء في هذه الأحكام سواء.
***وقوله ـ تعالي ـ
والذين يرمون المحصنات) مبتدأ, أخبر الله ـ تعالي ـ عنه بعد ذلك بثلاث جمل: وهي قوله ـ تعالي ـ
فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون)
والمعني: والذين يرمون النساء الطاهرات المؤمنات بالفاحشة, ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون لهم علي صحة ما قذفوهن به, فاجلدوا ـ أيها الحكام ـ هؤلاء القاذفين ثمانين جلدة, عقابا لهم علي ما تفوهوا به من سوء في حق هؤلاء المحصنات. ولا تقبلوا لهؤلاء القاذفين شهادة أبدا, بسبب إلصاقهم التهم الكاذبة بمن هو بريء منها.
وأولئك هم الفاسقون. أي: الخارجون علي أحكام شريعة الله ـ تعالي ـ وعلي آدابها السامية.
فأنت تري أن الله ـ تعالي ـ قد عاقب هؤلاء القاذفين للمحصنات بثلاث عقوبات:
أولاها: حسية. وتتمثل في جلدهم ثمانين جلدة, وهي عقوبة قريبة من عقوبة الزني.
وثانيتها: معنوية. وتتمثل في عدم قبول شهادتهم, بأن تهدر أقوالهم, ويصيروا في المجتمع أشبه ما يكون بالمنبوذين, الذين إن قالوا لا يصدق الناس أقوالهم, وإن شهدوا لا تقبل شهادتهم, لأنهم انسلخت منهم صفة الثقة من الناس فيهم.
وثالثتها: دينية. وتتمثل في وصف الله ـ تعالي ـ لهم بالفسق. أي بالخروج عن طاعته ـ عز وجل ـ وعن آداب دينه وشريعته.
وما عاقب الله ـ تعالي ـ هؤلاء القاذفين في أعراض الناس, بتلك العقوبات الرادعة, إلا لحكم من أهمها: حماية أعراض المسلمين والمسلمات من ألسنة السوء, وصيانتهم من كل ما يخدش كرامتهم, ويجرح عفافهم.. وأقسي شيء علي النفوس الحرة الشريفة الطاهرة, أن تلصق بهم التهم الباطلة.
وعلي رأس الرذائل التي تؤدي إلي فساد المجتمع: ترك ألسنة السوء, تنهش أعراض الشرفاء, دون أن تجد هذه الألسنة من يخرسها أو يردعها.